بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
السيد رئيس جامعة ابن زهر،
السادة عمداء الكليات،
السيدات والسادة أعضاء اللجنة الدائمة للبحث العلمي والتقني والابتكار، بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي؛
حضرات الأساتذة والباحثين،
الطلبة الأعزاء،
أيها الحضور الكريم.
إن إحياءكم لمناقشة قضايا الجامعة، لهو استكمال لسؤال جوهري حول دورها ومسؤوليتها المجتمعية، وعلاقتها ببنيات المحيط.
لقد اضطلعت الجامعات بالمغرب حتى أواخر الثمانينات، بمهمة تكوين الأطر الإدارية والتقنية التي تحتاجها الإدارة العمومية والاقتصاد والمؤسسات والقطاع الخاص، بغية استكمال ودعم سياسة المغربة وبناء الدولة الحديثة. وشكلت بالتالي أداة للارتقاء الاجتماعي وتعزيز الطبقة الوسطى.
غير أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي عرفها المغرب منذ الثمانينات من القرن الماضي، ألقت بظلال من الشك في قدرة الجامعة على مواصلة هذا الدور. وهي التحديات الكبرى التي لا زالت حاضرة وتستدعي تجديدا لمهام هذه الجامعات وعلاقتها بالمجتمع. ومن هذا المنطلق؛ يمكن – في نظرنا – أن تشكل الجامعة، موضوعا للتحليل والتفكير، عبر ثلاثة مداخل إشكالية:
- إشكالية الدينامية الداخلية: إن كانت تضطلع هذه الجامعة بدورها كإطار لتحقيق الكفايات والمعارف والقيم المتوخاة؟
- إشكالية تفاعل المجتمع مع الكلية: وأتساءل هنا عن النخبة المفترض أن تكون حاضنة ومدعمة لهذه الكليات، وعن التصور الذي تحمله عنها؟
- إشكالية إنتاج المعرفة: إلى أي حد تضطلع الجامعة بدورها المــأمول على مستوى حفز الذكاء الجماعي والدينامية العلمية، وإنتاج نخب فكرية؟
حضرات السيدات والسادة
قد خضع تاريخ الجامعة المغربية الحديثة لمسار تاريخي، ساهمت في تشكله عدة قطائع على المستوى الأكاديمي ؛من خلال جودة الأبحاث والتأطير، ساهم في ذٰلك تطور كمي هائل في أعداد الطلاب، لكن دون أن تواكبه إجراءات تساهم في المحافظة وتطوير جودة التكوين والبحث، بما يتلائم مع التحديات التي واكبت هذا التغيير العميق في بنية مؤسسات التعليم العالي ببلادنا.
حضرات السيدات والسادة
إن من أهم القطائع المشار إليها سابقا أن الجامعة المغربية شكلت إلى حد كبير “فضاء حرا”، وعرفت هامشا واسعا لممارسة دورها في الفكر النقدي “الإصلاحي”.ولقد كنت شاهدا على أن خصوصيات التحديث السياسي في المغرب سمحت بإنتاجات معرفية رصينة لا زالت حاضرة إلى الآن. وهذا الإنتاج كان في جزء كبير منه، يسائل الخيارات السياسية والاقتصادية والفكرية للدولة. وكانت هذه الأطروحات تصل إلى الرأي العام عن طريق الجرائد والمجلات.
لقد كانت الجامعة فاعلة ومواكبة للتحولات الجذرية التي تمس البنى الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية.
لقد كان للتغيير العميق الذي مس ديموغرافية المجتمع المغربي وأثره على الجامعات في سياق امتداد ثورة العلوم والتقنية، أثر بالغ على دورها في التأطير والتكوين والبحث بنفس المعايير التي كانت سائدة في السابق. حيث ترددت الكثير من الخطابات متسائلة عن دور الجامعة، خصوصا كليات العلوم الإنسانية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية؟ إيحاء بتواري دور هذه العلوم، والسعي لنمذجتها، وإيماء بأن هذه العلوم إرث يعيق السعي نحو اكتساب الكفاءة المهنية وجودة البحث العلمي في مجالات تخصصها. وإن كان لهذا الموقف ما يبرره في واقع الجامعة اليوم، فهو لا ينم عن رؤية لدور الأخيرة في تنوير السياسات العمومية حول المشاكل التي تعترض الإنسان والمجتمع. وهذا ما يرهن أكثر هذه الكليات بواجب الحفاظ على دورها المعرفي.
حضرات السيدات والسادة.
إن التحولات التي رافقت المجتمع المغربي في العشريات الأخيرة، أدت إلى إظهار جوانب الضعف في المفاهيم والنظريات والأبحاث في العلوم الاجتماعية والقانونية، التي لم تواكب بما فيه الكفاية هذه التحولات بالنظر للعوامل سالفة الذكر، والتي يمكن أن نضيف إليها:
– نقص الموارد البشرية والمالية المخصصة للتعليم والبحث؛
– فتح المنظمات غير الحكومية برامج جديدة للأبحاث تربط بين الأبحاث وبناء البرامج التدخلية في مجال السياسات العمومية، وهي جهود تستند للبحث تحت الطلب. والتي رغم أهميتها في تنوير هذه البرامج والسياسات، إلا أنها لا تؤدي للتراكم الذي يساهم فيه البحث العلمي الممأسس من خلال جماعات علمية منظمة تسهر على مراقبة جودة الإنتاج من خلال الآليات المخصصة لذلك كالمجلات العلمية التي تطبق معايير صارمة في تقييم الإنتاج من داخل الجماعة العلمية وليس من خارجها.
– ارتفاع معدل إشراف الأساتذة على الطلبة (103 طالب لكل أستاذ في الكليات ذات الاستقطاب المفتوح)، مما يعيق متابعة الاهتمامات البحثية بشكل منتظم؛
وتنشأ عن ذلك جملة من التحديات، أبرزها:
- تقلص مساحة التفكير المستقل والنقدي، الذي يجعل الإنتاج لا يؤثر بالشكل الكافي على النقاش العام والسياسات؛
- ضعف اتصال العلوم الاجتماعية والإنسانية في المغرب بمحيطها الدولي في عالم معولم، تستحوذ على الإنتاج فيه جامعات دولية يتجاوز تأثيرها حدودها الجغرافية ويمتد للعالم كله سواء من خلال التكوين أو البحث.
- وأخيرا، محدودية الولوج إلى التمويل والبيانات في إطار أبحاث منظمة، تخضع للتقييم الموضوعي داخل الجماعة العلمية، ويرفع ذلك من جودتها ومن وجاهتها.
حضرات السيدات والسادة
إن الأداء العام للتعليم العالي، يسائل الإصلاح الجامعي لسنة 2003 والتعديلات التي طرأت عليه، وفعالية تطبيقه ومدى تلاؤمه مع مقاصده الأصلية، لأن الحماسة التي سادت عند انطلاقته فترت مع مرور الوقت، وصرنا أمام تراجع مقلق. وقد أوصى التقرير القطاعي حول التعليم العالي، بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي؛ بالعودة لفلسفة نظام LMD وإتمام أساسياته.
لقد تم للأسف، إجراء بحث تقييمي واحد للعلوم الإنسانية والاجتماعية، في 23 سنة الماضية. والتحدي ليس هو التقييم وفقا لروح القانون الإطار، وإنما أن يكون التقييم ثقافة مستدامة، وضمانة أساسية لتطوير نظام البحث العلمي في هذه الكليات، إضافة إلى الحرية الأكاديمية، الواجب أن ترتبط بالمسؤولية والالتزام. وهي القيم التي يجب أن توجه عمل البحث على مستوى التكوين، بعيدا عن كل انحراف يمكن أن يشوبه؛ مثل الإشكالات التي تشوب التكوين والإشراف على حد السواء، والتي تضر بجماعة الباحثين.
كما يشكل ضعف الجماعات العلمية التخصصية، والعدد الضئيل من جمعيات الباحثين والمجلات العلمية التابعة لها والارتقاء بفهرستها تحديا حقيقيا لنشاط البحث واستدامته في الجامعة المغربية.
حضرات السيدات والسادة
إن الآفاق التي يستدعيها تصحيح نموذجنا الجامعي، يستلزم قفزة نوعية طموحة؛ تحافظ على جودة مكون الولوج المحدود، وتوطد مكتسبات الجامعات، على مستوى الدمقرطة الكمية وانتشارها الترابي، لكن في المقابل ينبغي أن تكون هذه الدمقرطة كيفية كذلك. لتفادي الثنائية التي تؤدي إلى التمييز الاجتماعي والثقافي. إذ لا يجب أن تكون الجودة حكرا على بعض المؤسسات الجامعية؛ وإنما ينبغي أن تكون المرجعية المشتركة بين كل مكونات النظام ذات الولوج المفتوح والمحدود معا.
وختاما، أجدد لكم الشكر جميعا، وأقدم خالص العرفان للرواد الأوائل من الأساتذة والباحثين والإداريين، الذين عملوا بمنتهى الإخلاص والتفاني حتى وصلت جامعة ابن زهر بكلياتها جميعا، إلى ما يدعونا جميعا للفخر والاعتزاز، دون أن أنسى الباحثين ضمن الجيل اللاحق والباحثين الشباب الذين مازالوا يتشبثون بالجودة في التكوين والبحث، وهم كثر رغم الصعوبات والتحديات.
أتمنى لأشغالكم كامل التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته