بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
السادة الوزراء،
السيدات والسادة الأعضاء،
السيدات والسادة ممثلو الصحافة،
أيها الحضور الكريم.
اسمحوا لي، في مستهل أشغال دورتنا السادسة، أن أرحب بكم جميعا، وأن أرحب نيابة عنكم بالسادة الوزراء الجدد المكلفين بقطاعات التربية الوطنية والتعليم العالي، السيدين محمد برادة وعز الدين ميداوي، معبرين عن تهانينا ومتمنياتنا لهما بالتوفيق والنجاح في هذه المرحلة المفصلية.
وأنتهز هذه المناسبة أيضا لأتوجه بالشكر الجزيل للوزيرين السابقين: السيد شكيب بنموسى، والسيد عبد اللطيف الميراوي، على ما أسهما به من أعمال كأعضاء سابقين بالمجلس، وعلى التعاون الكبير الذي أبدياه لمؤسستنا، كوزراء.
ولكون هذه القطاعات مؤتمنة مثلنا على الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، وعلى القانون الإطار، باعتبارهما مرجعا ملزما يعزز تراكم الإصلاحات ويوحد جهود الأطراف المعنية نحو تحقيق أهداف مشتركة تتجاوز نطاق الفترات الحكومية. فإننا مدعوون جميعا لمضاعفة الجهد والسعي الجماعي لجعل سنة 2025 سنة تسريع إعمال الإصلاح بالمواصفات التي تراعي الانتظارات المجتمعية من التربية، وتضع المنظومة على سكة التحول الدال.
إن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، يعي جيدا حجم هذه الانتظارات، ويستحضر دائما التوجيهات الملكية السامية، بضرورة مواكبة المجلس للإصلاح، بتنسيق مع القطاعات الحكومية والمؤسسات المعنية، من أجل الارتقاء بجودة التعليم، وتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص، والارتقاء بالفرد وبالمجتمع.
وكما أكدنا في تقريرنا السنوي عن حصيلة وآفاق عمل المجلس لسنة 2023، فإن المجلس، وهو يثمن كل المبادرات الإصلاحية المعتمدة قطاعيا، يؤكد أن تسريع إعمال مقتضيات القانون ـ الإطار، وأجرأة إطاره القانوني والتشريعي يعتبر ضمانة أساسية لاستدامة الإصلاح وتحصينه.
ولقد دعونا، ما مرة، إلى:
- ضرورة إيجاد تصور مشترك نسقي وعرضاني للإصلاح، بغض النظر عن البنى التنظيمية، يراعي المتعلمين عبر مساراتهم الدراسية والتكوينية من التعليم الأولي إلى العالي، إلى التعلم مدى الحياة؛
- والعمل على ما من شأنه ضمان التقائية السياسات والبرامج القطاعية في مجال التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، ودراسة مطابقة هذه السياسات والبرامج للاختيارات الاستراتيجية لإصلاح المنظومة؛
- وكذا، إرساء آليات تدبير الإصلاح على مستوى كل القطاعات، والتركيز على المشترك بينها كأهداف تستحضر باستمرار مركزية المتعلم، وعلى خصوصيات كل منها والتقائيتها وتكاملها؛
- ومواكبة وتتبع إعداد مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المنصوص عليها في القانون-الإطار، وتلك التي يستلزمها التطبيق الكامل لمقتضياته، داخل الآجال القانونية المحددة لها.
هذه الالتزامات تحذونا أيضا، وتحفز على أن يكون للمجلس قيمة مضافة في ورش وطني يتعين أن يحقق أهدافه بالكامل، وبالسرعة التي تراعي سرعة العالم من حولنا.
حضرات السيدات والسادة،
لقد ظل انشغال المجلس بإرساء ‘’ مدرسة جديدة’’ أهم موجه لأعماله منذ انطلاق ولايته الثانية، التي تتمحور أساسا حول» المواكبة اليقظة، والاستباقية والاستشرافية لإصلاح المنظومة التربوية وبناء المدرسة الجديدة «.
ولمواكبة التساؤلات بشأن ماهية المدرسة الجديدة ومقوماتها وملامحها ومستلزمات تحقيقها، وبشأن كيفية التعاطي مع المستجدات التي تتفاعل داخل المنظومة التربوية وتحيط بها، قررنا، خلال دورة الجمعية العامة المنعقدة في دجنبر من السنة الماضية، إحداث مجموعة عمل خاصة للإشراف على إعداد تقرير في هذا الشأن يمكننا من فهم مشترك ومتقاسم لمقومات المدرسة الجديدة وللإشكالات العرضانية التي تعيق إرساءها. ويطيب لي التنويه عاليا بالوتيرة المكثفة التي اشتغلت بها اللجنة المؤقتة، وبالمجهود المهم والوازن لرئيسها وأعضائها وجميع أطر الدعم.
يسعى هذا التقرير بعنوان: “المدرسة الجديدة، تعاقد اجتماعي جديد للتربية والتكوين”، إلى تعميق التفكير في ماهية المدرسة الجديدة ومقوماتها وملامحها ومستلزمات تحقيقيها، وفق مقاربة نسقية واستشرافية تأخذ في الاعتبار التحديات المستقبلية وتجارب المنظومات التربوية الناجحة.
يتمحور هذا التقرير حول سبع رهانات رئيسية، مرتبطة أساسا بالإشكالات العرضانية التي ظلت عالقة، والتي اقترحت الرؤية الاستراتيجية في شأنها مقاربات مبتكرة.
إن المكتسبات التي حققتها بلادنا في مجال التربية والتكوين، والتي يجب توطيدها وتطويرها، تشكل الأرضية الصلبة التي تؤسس عليها المدرسة الجديدة. ونرى أن التنفيذ الفعلي لإصلاح عميق لمنظومة التربية والتكوين يجب أن يركز على إطار قانوني يتناسب مع الطموحات والالتزامات الواردة في النصوص التشريعية، ولاسيما في القانون الإطار 17-51 كونه يتضمن أحكاما ملزمة لجميع المتدخلين. كما علينا ألا نتخوف من إحداث القطائع الضرورية، وابتكار حلول جديدة للحسم في الإشكالات العرضانية العالقة، والمزاوجة بين الطموح والواقعية، لأجل نهضة تربوية حقيقية لتحسين جودة التعليم بشكل جوهري.
وأعتقد أنه حان الوقت، لعقد “مناظرة وطنية”، تجعل التدابير الإجرائية التي جاءت بها الرؤية الاستراتيجية وتقرير “المدرسة الجديدة” موضوع تداول مع كل الأطراف المعنية، وفق مقاربة تشاركية، تزاوج بين الخبرة المهنية والتجربة الميدانية والمصداقية السياسية. وبالتالي ستشكل مدخلا لهدف طموح يتعلق باستباق القضايا الإشكالية والمستجدة والصاعدة في أفق تحيين الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، وإرساء المدرسة الجديدة المستجيبة للحاجيات المستقبلية. وسيضع المجلس قدراته وطاقاته في خدمة هذا الورش، واستدامة العمل من أجله.
ولا شك أن التغيير ممكن، كما أكد جلالة الملك في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2017-2018 بقوله:”إن الاختلالات التي يعاني منها تدبير الشأن العام ليست قدرا محتوما. كما أن تجاوزها ليس أمرا مستحيلا، إذا ما توفرت الإرادة الصادقة وحسن استثمار الوسائل المتاحة”.
حضرات السيدات والسادة
إن الاهتمام الكبير الذي يوليه جلالة الملك حفظه الله لمغاربة العالم من خلال كل الخطابات التي يوجهها، ودعوته الحكومة إلى العمل على هيكلة المؤسسات المختصة بالجالية المغربية بالخارج، وعلى رأسها مجلس الجالية المغربية بالخارج والمؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج، يدعونا كذلك-كمعنيين بقطاع التربية والتكوين والبحث العلمي- إلى الإسهام الجاد في تعزيز روابط الهوية والمحفزات الاجتماعية والتربوية لدى هذه الفئة تجاه بلدها، وتعزيز معارفها عن ثقافته وتاريخه ومنظومة قيمه.
حضرات السيدات والسادة،
نلتقي في هذه الدورة، للوقوف عند تحدياتنا وتقاسم الانشغالات، والبحث عن المزيد من تجويد أعمالنا.
وأود التنويه بجهود كافة الأعضاء واللجان، وأنا أتتبع عملهم الدؤوب على مستوى التفكير والبحث والاقتراح؛ مع التأكيد فقط على ضرورة تسريع عملهم خلال الأشهر الخمسة القادمة، قصد إتمام التزاماتنا، في انسجام مع استراتيجية وخطة عمل المجلس، خصوصا أننا على مقربة من منتصف هذه الولاية. وكلي أمل أن عملكم سيراعي طموحنا ويؤمن التطبيق المستدام لأهدافنا.
وإن هذه المشاريع وغيرها، المندرجة ضمن خطة عمل المجلس، تستلزم وفق مقتضيات التدبير المالي والمحاسباتي نهج برمجة مالية سنوية؛ مما يجعلنا مدعوين اليوم كذلك للتداول في مشروع ميزانية المجلس برسم سنة 2025 واعتمادها، خلال أشغال هذه الدورة.
حضرات السيدات والسادة الأعضاء،
ستقف جمعيتنا العامة على عملين أنجزتهما الهيئة الوطنية للتقييم مشكورة؛ ضمن مهامها في تقييم التقدم الفعلي للإصلاحات، وقياس مدى تحقق الأهداف التربوية المنشودة وتحديد مستوى تأثيرها على أرض الواقع.
العمل الأول، يهم التقرير التحليلي حول منظومة التوجيه، حيث أظهرت التحليلات والمعطيات الكمية والكيفية للتقرير، أن نظام التوجيه المدرسي كما هو ممارس داخل المنظومة التربوية لازال لم يستوف بعد شروط الوجاهة، والنجاعة، والفعالية، والاستدامة. كما أنه يعاني من أوجه محدودية، تكمن أساسا في:
- سيادة الطابع الظرفي وغير المنتظم على أنشطته؛
- غياب تتبع فردي للمتعلمين على أساس كفاياتهم أو طموحاتهم؛
- الاعتماد في التوجيه على الانتقاء القبلي والمباريات دون أخذ الاختيارات وكفايات المتعلمين واحتياجات المحيط السوسيو-اقتصادي بعين الاعتبار؛
- غياب معطيات محينة وذات مصداقية عن بنية ودينامية الاندماج المهني للمتخرجين في سوق الشغل والكفايات المطلوبة؛
- الخصاص المسجل في أطر التوجيه المتخصصة في التوجيه.
يظهر التقرير أن كل إصلاح لنظام التوجيه المدرسي، مطالب بالتحرر من لزوم النظر إلى كفايات التلامذة من منظور معدلاتهم ونقطهم فقط. بل وجوب وضع التوجيه في قلب النموذج البيداغوجي والعملي طوال المسار الدراسي، إذا كنا نريد تكريس مبدأ الإنصاف والجودة والرقي بالفرد والمجتمع.
وفي مستوى آخر، وبالنظر إلى تعدد المتدخلين ومستويات التوجيه، وما يتبع ذلك من عجز واختلال، يؤكد التقرير ما سبق للمجلس، مرة أخرى أن أوصى به؛ وهو ضرورة الإسراع بإنشاء الوكالة الوطنية للتوجيه.
ووعيا من المجلس بضرورة إيلاء أهمية خاصة للمستوى المجالي الترابي في متابعة فعالية الإصلاح، عبر تقرير “الأطلس المجالي الترابي”، حيث تبنى المجلس تطوير الأدوات والآليات اللازمة لتقييم النظام التعليمي في شقه المجالي بشكل دقيق وفعال. ويساهم الأطلس المجالي الترابي الذي وصل إلى نسخته السابعة، والثانية خلال هذه الولاية، في تسليط الضوء على موضوع البنية التحتية للمؤسسات التعليمية. ويكشف الأطلس عن تفاوت ملحوظ في جودة البنية التحتية بين مختلف الأسلاك التعليمية المدرسية الثلاث، حيث يظهر المؤشر المركب لجودة البنية التحتية تحسنا تدريجيا في مستوى البنية التحتية كلما ارتفعنا في السلك التعليمي. حيث سجل هذا المؤشر 53 نقطة من أصل 100 في المؤسسات الابتدائية في سنة 2022، مقابل 77 نقطة في التعليم الثانوي الإعدادي و81 نقطة في التعليم الثانوي التأهيلي، مما يعكس ارتفاعا ملحوظا في جودة البنية التحتية مع الانتقال إلى أسلاك تعليمية أعلى.
كما يبين الأطلس أيضا تفاوتا كبيرا داخل التعليم الابتدائي، إذ حققت المدارس الابتدائية المستقلة 66 نقطة، في حين لم تتجاوز المدارس الفرعية 25 نقطة كمتوسط، مما يبرز الحاجة الماسة إلى دعم هذه المؤسسات لتحسين بنيتها التحتية.
ومن جهة أخرى، كشف الأطلس إلى أن المؤسسات التعليمية التي تضم عددا أكبر من التلاميذ تميل إلى تقديم بنية تحتية مدرسية أفضل مقارنة بنظيراتها الأصغر حجما. كما تعتبر البنية التحتية لمؤسسات السلك الثانوي الإعدادي في الوسط القروي أفضل من نظيرتها في مؤسسات السلك الابتدائي في الوسط الحضري بفارق أربع نقاط (70 مقابل 66 نقطة). وهو أمر غير معتاد بالنظر إلى التوجه العام الذي يظهر عادة تحسن البنية التحتية في المدن. كما يدعو الأطلس إلى تكاتف الجهود بين مختلف القطاعات الحكومية لتحسين البنية التحتية المدرسية في المؤسسات الفرعية، خاصة وأن هذه المدارس تستقطب أعدادا من التلاميذ تقارب تلك التي يستقطبها السلك الثانوي التأهيلي بالكامل. كما أكد الأطلس على ضرورة تناول تحسين البنية التحتية المدرسية من خلال مبادرات قطاعية مشتركة تضم جميع الفاعلين المحليين، خصوصا في أوسط القروي، وذلك لتوحيد الجهود وتوجيهها نحو الأفضل.
وعلى الصعيد الجهوي، تظهر نتائج الأطلس أن جهتا العيون-الساقية الحمراء والداخلة-وادي الذهب تتميز بشكل ملحوظ في مجال البنية التحتية المدرسية في مستوى التعليم الابتدائي، حيث تحتلان المركزين الأول والثاني في التصنيف الجهوي، مسجلتين مؤشرا يبلغ في المتوسط 68 و63 نقطة على التوالي. أما بالنسبة للسلك الثانوي الإعدادي، فقد تمكنت كل من جهتي الرباط-سلا-القنيطرة والعيون-الساقية الحمراء من بلوغ عتبة 80 نقطة في مؤشر البنية التحتية المدرسية، بينما تميزت جهتا الشرق وفاس-مكناس بتوفير أفضل بنية تحتية مدرسية على المستوى الجهوي في مؤسسات التعليم الثانوي التأهيلي، حيث سجلتا مؤشرا قدره 84 نقطة.
كما يبين الأطلس أن الفوارق من حيث البنية التحتية للمؤسسات تزداد بشكل أكبر كلما انتقلنا من مستوى مجالي ترابي إلى ما هو دونه كما هو ملاحظ بالانتقال من المستوى الإقليمي إلى مستوى الجماعات المحلية. ففي السلك الابتدائي، على سبيل المثال، من بين 1 524 جماعة تتوفر بها مؤسسات التعليم الابتدائي، هناك نحو 600 جماعة تسجل مؤشرا للبنية التحتية المدرسية يتجاوز عتبة 50 نقطة، ما يمثل حوالي 29% من إجمالي الجماعات. وبالمقارنة، على المستوى الإقليمي، هناك 50 إقليما من أصل 75 في المغرب تسجل مؤشرا يفوق هذه العتبة، مما يعادل 67%. وهذا التباين الكبير يعكس الحاجة إلى سياسات محلية أكثر نجاعة تساهم في تحسين البنيات التحتية التعليمية في الجماعات المحلية الأكثر تهميشا، بهدف تحقيق الاستجابة للتحديات الترابية وتعزيز العدالة المجالية في نظامنا التعليمي بشكل يضمن تكافؤا أكبر للفرص.
حضرات السيدات والسادة الأعضاء،
لقد ارتأينا، وبتنسيق مقدر ومشكور مع السيد محمد سعد برادة وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، إدراج نقطة في جدول أعمال الدورة، تهم تقديم عرض يهم الرؤية الحكومية للآفاق المستقبلية لمنظومة التربية الوطنية والتعليم الأولي على المدى القريب والمتوسط. وفي ذلك تجل للارتباط الواضح بين التقييم والاستشراف كمحورين أساسيين؛ ذلك أن كل تفكير في الإصلاح التربوي وفي النهوض بالمدرسة هو استشرافي بالضرورة، كما أن كل مقاربة استشرافية لا بد أن تزاوج بين الاستناد إلى التطور الحاصل في الماضي وإلى تشخيص الوضعية الحالية.
من ناحية أخرى، وعبر هذا التمرين الديمقراطي بامتياز، أغتنم هذه الفرصة لأثمن التعاون المؤسساتي الذي يؤشر على استمرارية مسار واعد من التنسيق، بين مجلسنا وبين السلطة التنفيذية، التي يمثلها جميع السادة الوزراء المشرفون على هذه القطاعات، الذين هم، في الآن ذاته، أعضاء كاملو العضوية بالمجلس.
كما يسعدنا اليوم أن نوقع اتفاقية شراكة وتعاون، مع وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة. ونحن على يقين أن هذه الدورة ستشكل فرصة لتعزيز سعينا الجماعي لإرساء انخراطنا في مواكبة وتقوية ودعم منظومة التربية والتكوين ببلادنا، وتفاعلنا اليقظ مع كل سياسات وبرامج الإصلاح.
ذلكم، تقديم عام لمحاور أشغال هذه الدورة، والتي أتمنى-بتضافر جهودنا واجتهادنا الجماعي-أن تكلل نتائجها بالنجاح والسداد.
شكرا لكم جميعا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.