باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
حضرات السيدات والسادة
الحضور الكريم
يسعدني أن أتواجد معكم اليوم بمناسبة انعقاد الندوة الدولية حول موضوع ” الذكاء الاصطناعي : رافعة من أجل تحولات التربية والتكوين والبحث العلمي ” والذي نعتبره أحد المواضيع ذات الأهمية البالغة في عصرنا الحالي ، حيث تعرف الثورة التكنولوجية تطورات جديدة ومتسارعة غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي ، عبر مختلف أنحاء العالم ، مما يفتح الطريق أمام آفاق واسعة للتنمية في مجالات متعددة للنشاط البشري .
وأود في البداية أن أتقدم بالشكر لضيوفنا القادمين والمشاركين معنا من مختلف البلدان ، ومن بينهم أساتذة وباحثون في مجالات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتعددة ، كما أود أن أشكر منظمة اليونيسكو لتعاونها الدائم معنا ، وهو ما يدل على مدى اهتمامكم البالغ بالتقنيات المتطورة التي تمثلها اليوم التطورات الجديدة في الذكاء الاصطناعي ومساهمتها الحاسمة في التقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي .
إن مشاركتكم في النقاش حول الذكاء الاصطناعي سيساهم دون شك في استيعاب فهم أفضل ليس فقط لمزايا التطورات التكنولوجية الجديدة ، ولكن أيضا للرهانات التي تنطوي عليها هذه التطورات بالنسبة لرفاهية الإنسان والتحديات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية واستدامة البيئة بأبعادها المتعددة ، وما يوفره الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات النشاط البشري ، نظرا للإمكانات الهائلة التي يتيحها لفائدة تنمية وتطور الشعوب .
إن الذكاء الاصطناعي بحضوره المتزايد والمؤثر في مختلف الأنشطة الاقتصادية، بل وفي مناحي متعددة من الحياة اليومية يمكن أن يصنف بإنجازاته الحالية والمتوقعة كواحدة من أعظم الثورات التكنولوجية في عصرنا الحالي. ذلك أن هذا التطور يتجاوز حدود التخصصات المتعارف عليها ويؤثر في جميع جوانب حياتنا، كما يتسبب في تحولات عميقة في مختلف القطاعات الإنتاجية، بل هو بصدد تشكيل العالم من حولنا بسرعة كبيرة، أمام أعيننا.
وفي واقع الأمر، وحسب ما تمليه التطورات المتسارعة، لا يمكن اختزال الذكاء الاصطناعي في بعده التكنولوجي البسيط لأن دوره أصبح أكثر من ذلك، بل أصبح مؤثرا في سلوكنا وهياكلنا الاقتصادية وتنظيماتنا الاجتماعية وثقافتنا المجتمعية. ومن المنتظر أن تساهم هذه الثورة التكنولوجية، بشكل حاسم، في تغيير الطرق التي نشتغل بها، والأساليب التي ننهجها في مختلف الأنشطة التي نقوم بها، بل وحتى الأشكال والصيغ التي نعتمدها في التفاعل مع بعضنا البعض .
كما أن التطورات المتسارعة التي تعرفها التطبيقات المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي من المنتظر أن تمكن من إيجاد حلول مبتكرة للصعوبات التي تواجهنا في الحياة اليومية بطرق متعددة ، سواء من خلال المساعدة على الاستغلال الأمثل للموارد ، أو من خلال دعم أنظمة الإنتاج ، أو من خلال المساعدة في معالجة الإشكاليات المعقدة ، أو من خلال الانفتاح على أشكال جديدة من الإبداع وتحسين مستوى الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية
كما كشفت أزمة كوفيد 19 عن أهمية التكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في ضمان استمرار الخدمات العمومية في سياق الأوبئة والكوارث الطبيعية من خلال تطوير برامج تكوينية مخصصة للمهن الرقمية الجديدة والبنيات التحتية اللازمة ، وعلينا اليوم تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي في التعلم استخداما منصفا وشاملا للجميع ، يعزز المساواة بين الجنسين وبين مختلف الشرائح الاجتماعية ويمكن من تقاسم ونشر الدروس بشكل مجاني واستثمار الذكاء الاصطناعي لإتاحة فرص التعلم مدى الحياة للجميع .
حضرات السيدات والسادة
إذا كان التقدم التكنولوجي الذي أصبح ممكنا اليوم بفضل الذكاء الاصطناعي يمثل اللبنة الأساسية لتسريع التقدم الاقتصادي على مختلف الأصعدة ، فإن التطور المذهل لهذه التقنيات ونشرها في جميع مجالات النشاط البشري لا يخلو من مخاطر قد تطال التطبيقات المختلفة للتكنولوجيات الجديدة في عدة ميادين والتي يتحتم استشرافها لتجنب أثرها، حيث يحتل فقدان التحكم في الأنظمة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي مركز الصدارة من بين المخاطر الرئيسية الأكثر تداولا عند المحللين في هذا المجال ، ذلك أنه يصبح من الصعب ، في مراحل معينة ، التنبؤ بسلوك الأنظمة التي يطورها الذكاء الاصطناعي نظرا لحجم هذه الأنظمة وتشابكاتها التقنية وشدة تعقيداتها .
كما أن الأخطاء المحتملة في تركيب البرمجيات وتصميم الخوارزميات وحتى في تقدير ردود الفعل غير المتوقعة يمكن أن تشكل تهديدات حقيقية ذات عواقب وخيمة على أمن الأنظمة القائمة ، وفي حالة انعدام آليات الترقب أو التحكم ، لا يمكننا مسبقا استبعاد السيناريوهات التي يتم فيها استخدام التطورات السلبية في الذكاء الاصطناعي لأغراض زعزعة الاستقرار من خلال تعطيب الأنظمة التكنولوجية وتخريب الآليات المرتبطة بها . ومن جانب آخر، إن تطوير أنظمة تكنولوجية ، عن طريق تقنيات الذكاء الاصطناعي ، قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة تماما عن إرادة الإنسان مما يثير دون شك أسئلة جوهرية فيما يخص تحديد المسؤولية وما يترتب عنها من عواقب في حالة حدوث أخطاء أو أفعال ضارة .
بالإضافة أن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي يعرض المجتمع لمخاطر جديدة يمكن أن تؤثر على البنية التحتية الحيوية وشبكات الكمبيوتر وحتى الاليات ذاتية القيادة؛ مما يحتم تعزيز الأنظمة الأمنية وترسيخ بروتوكولات الوقاية.
السيدات والسادة
وعلى صعيد آخر، تتمثل المخاطر الناجمة عن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في الصعوبات الخاصة بالمحافظة على سرية المعطيات ، حيث أن الكمية الكبيرة من البيانات التي تجمعها أنظمة الذكاء الاصطناعي للتعلم أو اتخاذ القرار تثير تساؤلات عدة حول حساسية المعلومات المستخدمة وطرق حمايتها ، ذلك أن احتمال تسريب البيانات المتوفرة أو استخدامها لغير الأغراض التي أحدثت من أجلها قد تترتب عنه عواقب سيئة سواء على المجتمع ككل أو على فئات اجتماعية بعينها أو حتى على الحياة الخاصة للأفراد .
وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي ، يحذر المحللون من الانعكاسات القوية للتطورات المستقبلية في تقنيات الذكاء الاصطناعي على الهياكل الإنتاجية وتنظيم العمل والتوظيف ، وذلك على الرغم من المكاسب المتوقعة في تحسن الإنتاجية والكفاءة التي يتيحها تسارع التطورات التكنولوجية والتي لا يمكن إنكارها ، كما أنه من المتوقع جدا أن يؤدي احتمال استبدال الوظائف على نطاق واسع بآلات ذكية إلى اضطرابات كبيرة في سوق العمل ، مع كل ما قد يترتب على ذلك من عواقب على توازن النظام الاقتصادي والاستقرار المالي والتماسك الاجتماعي ، ويصبح من الضروري ، مواجهة هذا الخطر الداهم على المستوى الاجتماعي بالاعتماد على تطوير أنظمة جديدة للتعليم والتكوين وإعادة التدريب والتأهيل ، مما يتيح إدخال المرونة اللازمة في مؤهلات اليد العاملة قصد التخفيف من الآثار السلبية على التوظيف والاستقرار الاجتماعي .
ويتبين مما سبق أن التطورات التكنولوجية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي اليوم تحمل إلى جانب الفرص الكبيرة التي توفرها في مجالات متعددة، مخاطر كبيرة على الاقتصاد والمجتمع. لذا وجب مواجهة هذه المخاطر وتقييم انعكاساتها المحتملة وفق مقاربة استباقية وذلك للتمكن من الحد من آثارها بأنسب الطرق وأكثرها فاعلية ، ومن المبادرات الأساسية التي يتعين اتخاذها في هذا الصدد إعطاء الأولوية القصوى لاعتماد منظومة أخلاقية متكاملة وآليات مراقبة مناسبة للإشراف على جميع أنشطة التطوير في مجال الذكاء الاصطناعي وذلك من أجل ضمان المساهمة الإيجابية لهذه التقنيات الجديدة في التنمية البشرية دون المساس بضرورات الأمن وبالثوابت الأخلاقية للمجتمع ، المتمثلة أساسا في الحرية والمساواة والعدالة والتضامن بين الأفراد والفئات الاجتماعية.
حضرات السيدات والسادة،
إن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كمؤسسة استشارية، يعتبر نفسه معنيا بصفة مباشرة بجميع المسائل المتعلقة بالمعايير الأخلاقية وآليات التنظيم والرقابة التي يجب أن تحكم تطوير التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي بشكل عام وعلى الخصوص في مجال التربية والتكوين . والانشغال الخاص للمجلس بهذه المسائل نابع من كونه منخرط كل الانخراط في مشروع إصلاح المنظومة التربوية بكل مكوناتها لتحقيق الأهداف المحددة طبقا لمضامين الرؤية الاستراتيجية للفترة 2015 – 2030 .
السيدات والسادة
ويجدر التذكير بهذه المناسبة أن استراتيجية الإصلاح التي تنطلق من كون المدرسة تشكل إحدى الركائز الأساسية لمشروعنا المجتمعي، تهدف إلى التأسيس لمدرسة جديدة توفر فرص التعلم الجيد للجميع ، على أساس العدالة وتكافؤ الفرص كما تيسر شروط الانفتاح وتضمن اندماجا اجتماعيا أفضل للمتعلمين . ويتعهد المجلس، وفقا لوضعه وفي إطار صلاحياته الاستشارية، بمرافقة وتشجيع وتقييم كافة المبادرات التي تساهم في تحقيق هذه الأهداف، من خلال دعم أدوات السياسات العمومية الأكثر ملائمة في هذا المجال.
كما أن تحسين جودة المدارس وأدائها على جميع مستويات النظام التعليمي، والذي يشكل أحد الأهداف الجوهرية للإصلاح ، لا ينفصل عن تجديد وإعادة تأهيل مهنتي التدريس والتأطير البيداغوجي ، وينطبق نفس الشيء على أساليب الإدارة والحكامة لمنظومة التربية والتكوين بأكملها والتي يجب أن تتلاءم مع المعايير المتجددة في هذا المجال من حيث الأداء والكفاءة ، ولتحسين الكفاءة الداخلية للنظام وأدائه الخارجي من حيث قدرة الإدماج في الحياة العملية ، يتعين اعتماد نموذج بيداغوجي يتميز بالتنوع والابتكار والانفتاح مع القدرة على استيعاب التطورات الجديدة في التكنولوجيا .
حضرات السيدات والسادة،
من خلال التذكير بأهداف إصلاح نظام التعليم والإجراءات التي يتعين اتخاذها في هذا المجال، نود أن نؤكد على أهمية التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي كأداة توفر فرصا غير مسبوقة لتحسين التعلم وتحول المدرسة والمجتمع والمنظومة التربوية بأكملها . واسمحوا لي أن أقدم لكم بعض أهم التطورات التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي في المجال التعليمي والتي ستكون بالتأكيد محور مناقشاتكم المفصلة خلال الجلسات المقررة في هذه الندوة:
أولا: تمكين أنظمة الذكاء الاصطناعي من تحليل البيانات الخاصة بكل طالب وسلوكه وأدائه لإجراء التعديلات اللازمة على تعلمه فيما يتعلق بالمحتوى أو الأساليب أو وتيرة الدروس التي يراد تلقينها . كما تسمح هذه الإمكانية للطالب بالتقدم بالسرعة التي تناسبه مع توفير مراقبة شخصية لتعلمه.
ثانيا: المساعدة في القيام بالأشغال المتكررة ذات الطبيعة البيداغوجية أو الإدارية المحضة والتي يتعين إنجازها في وقت محدد. كما يمكن لهذه التقنيات أيضا أن تساهم في تحسين البرامج التعليمية لأنها تتيح فحص كميات كبيرة من البيانات لتحديد الاتجاهات والصعوبات والفجوات في أنظمة التعلم وذلك قصد إجراء التعديلات اللازمة .
وأخيرا، المساهمة في تطوير الأدوات المستخدمة في التعليم عبر الإنترنت والتي باستطاعتها توفير المراقبة والمساعدة الفورية للمتعلمين مع دعمهم في مسار التعلمات الخاصة بهم. كما يمكن أن تساعد هذه الأنظمة أيضا في تحسين إمكانيات الولوج والإدماج في مجال التعليم من خلال التقنيات المتطورة لتلبية الاحتياجات الخاصة للمتعلمين.
و من خلال هذه الأمثلة الدالة التي حرصت أن أذكر بها بهذه المناسبة ، ناهيك عن أمثلة أخرى والتي ستناقش في الورشات المبرمجة في هذا اللقاء ، يتبين أن الذكاء الاصطناعي مهم لتغيير نظام التعليم ، وأن التطبيقات الملائمة لهذه التكنولوجيات المتجددة في مجال الذكاء الاصطناعي تمهد لبزوغ مدرسة أكثر تكيفا مع التحولات الجارية . ويتعين رغم ذلك الالتزام ببعض الضوابط الاحترازية لتأمين الاستخدام المتوازن لتقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل تجنب المخاطر المتعلقة بشكل خاص بأمن النظام وسرية البيانات والاعتماد المفرط على التكنولوجيا ، كما ذكرت سابقا ، لذلك اسمحوا لي أن ألتمس منكم معالجة كل هذه الأسئلة بعناية دقيقة خلال مناقشاتكم من أجل الفهم الكامل للتحديات التي تمثلها لمستقبل المدرسة ، ولتحديد مضمون الضوابط المناسبة التي يجب وضعها وكذلك المعايير الأخلاقية التي ينبغي أن تؤطر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم .
حضرات السيدات والسادة
لا يفوتني أخيرا أن أنوه بهذه المناسبة بكامل أعضاء اللجنة العلمية المعينة من طرف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ، و بالخصوص الأستاذ عبد الكريم مدون ، رئيس اللجنة ، والأستاذ أمين بنسعيد عضو المجلس على المجهودات القيمة التي بذلوها للإشراف على هذه الندوة في جانبها العلمي ، كما أريد أن أثمن بشكل خاص المساهمة المتميزة التي قامت بها الأستاذة أمل السغروشني ، عضوة المجلس ، لتيسير انعقاد هذا اللقاء في مستوى علمي رفيع وبمشاركة باحثين مرموقين في الميدان . وفي الختام، أريد أن أجدد لكم جميعا الشكر، وأتمنى لإشغالنا كامل النجاح والتوفيق والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.